تستشهد الكاتبة والباحثة المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها (شهرزاد ترحل إلى الغرب) بنصيحة قدّمتها لها جّدتها
(الياسمين) مفادها: “حتّى تكسبي الآخر عليكِ بمعرفته جيّداً، والاقتراب منه إلى أن تدركي الاختلاف بينكِ وبين هذا
الآخر الغريب عنكِ، وعندها سيغدو الاختلاف وسيلة للاقتراب منه أكثر”.
تلك كانت حكمة ونصيحة صرّحت بها الجدّة لحفيدتها، ولطالما كان أجدادنا قادرين على منحنا الاتجاه السليم لطريقنا
الذي نودّ ارتياده، فهم أخبر وأعلم بالحقيقة، وهذا ما تقوله الأمثال الشعبيّة التي تعلّق بها الكثير منّا، وأدركنا بسببها
صوابيّة الأمور، ومن هذه الأمثلة: “أكبر منك بيوم أعلم منك بدهر”، “أكبر منك بليلة أعلم منك بحيلة”، وغيرها من
الحكم التي تشير لمدى خبرة ودراية وتجربة من يولد ويجرّب قبلنا في هذه الحياة.

لن يكون الاختلاف، إذا ما بحثنا فيه، اختلافاً في الشكل والمضمون فقط، بل قد يكون أيضاً اختلافاً في الجغرافية،
وحتّى في اللغة، والمنطق، وكذلك في الجنس، فالسفر من مكانٍ لآخر يعرّفنا على اختلاف من يقطن في هذا
المكان الجديد، وكذلك في اللغة التي يتداولها سكان هذا المكان أو ذاك، والعادات والتقاليد والأعراف، وكثيراً ما
فاجأتنا الروايات عن أساليب غريبة، وطرق تعامل وعيش، إذا ما قارناها بما لدينا نزداد استغراباً وتفكيراً وربّما ضحكاً.
أيضاً في معرفة الآخر لن ننسى بأنّ الاختلاف بين الأنثى والذكر هو رحيل من نوعٍ آخر، وبحثٌ واستغراق، ونجد عند
البعض من الرجال رواياتٍ عن النساء بحسب تجاربه، وكأنّه يتعامل مع كائناتٍ قادمةٍ من كوكبٍ آخر، ويذكرنا هذا
الكلام بما طرحه أستاذ الفلسفة “جون غراي” في مؤلّفه (النساء من الزهرة والرجال من المريخ) حيث قدّم فيه
دراسة ومقارنات مفيدة تبيّن طريقة تفكير النساء واهتماماتهن المختلفة جذرياًّ عن طريقة تفكير واهتمام الرجال
عموماً، كما بيّن الفروق الجوهريّة بين الاثنين، فعندما تُكثر المرأة من السؤال لرجل تتعامل معه، تلك دعوة مبطنة
منها له كي يهتمّ بها أكثر فهي بحاجة للأمان، لكن قد تكون ردّة فعل الكثير من الذكور الملل والسأم من أسئلتها!
ومنهم من يطلق سخرية أو كلاماً جارحاً أو موقفاً صادماً ليعمل على إسكاتها! في حين أن الأمر لا يتعدّى نطق
كلمة لطيفة وتصرّف حنون سيكون مفعوله أسرع من تأثير إبرة البنج التي يقدّمها أطباء التخدير قبل دخول المريض
لإجراء عمليّة جراحيّة.

هنا ومن باب معرفة الآخر من أجل احترامه تعلّمنا في بلادنا أنّ الاختلاف وجوده جميل وضروري، والاختلاف وسيلة
للتعايش والسلام، وهذا ما يميّز الإنسان في سورية الذي يحتفي بالغريب وبالضيف والزائر، فيقدّم أفضل ما يملك
من أجل الاقتراب أكثر وإسعاده والاحتفاء به، وكلّ ذلك يشير إلى اهتمام واحتفال بوجه الاختلاف بيننا وبين الآخر،
لذلك لجأ إلى سوريا الأرمن والسريان وكذلك الجزائريين والفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين على مرّ التاريخ، وكلما
كان هناك محنة لديهم كانت أبوابنا مشرّعة لضمهم ومواساتهم في جراحهم.
أعتقد بأن ردود الأفعال عند الأزمات تختلف وتتباين تبعاً للهم الذي ينحاز إليه الفرد، بحسب السيكولوجيّة والنفسيّة
الخاصّة بكلّ إنسان في هذا الوجود، ولكن المسائل التي تنضوي على ردود أفعال هي مسائل تثير في النفس
البشريّة الاشمئزاز وعدم الارتقاء بالسلام الذي يتطبّع عليه الإنسان، لا سيّما وأن الغالبيّة من الناس، وكذلك
المتخصصين في علم النفس والتحليل النفسي، يشيرون دائماً إلى أن النفس البشريّة تنزع إلى السلام وتحارب في
كينونتها الشرّ والحروب.
لذلك نقول ختام كلامنا في معرفة الآخر بأنّ الأصل المتفق عليه أن نقترب من الآخر، وأن نصنع من اختلافنا معه
جسراً للتواصل والمحبّة، فعلى مرّ الأزمان لم تجلب العدائيّة سوى العدائيّة، والفعل أو التصرّف الذي نقوم به هو
بشكل أو بآخر يشير لطريقة التربية التي ترعرعت عليها من والديك أوّلاً ومن البيئة التي نشأت عليها كفرد بما فيها
البيئة الدينيّة، فالمرء الذي يقدّم نفسه بكلّ حبّ واحترام لا بدّ أن سلوكه سينعكس على الآخر بالتراحم والمودّة
والحبّ، في حين أنّ الشخص المبادر بالعدائيّة والدعوة للتصارع والصدام يشير سلوكه من دون أن يدري إلى بيئة
نتنة ينتسب إليها، وتربية سيئة نشأ عليها، فلينتبه كلّ منّا لهذا السرّ، فنحن صورة لكلّ الأحداث التي تجري، ولكلّ
الأفعال التي نقوم بها.