الثلاثاء, أكتوبر 28, 2025
الرئيسيةالرئيسةزياد الرحباني بين الإرث والتجديد

زياد الرحباني بين الإرث والتجديد

حين يُذكر اسم زياد الرحباني، تقفز إلى الذهن فوراً صورة الفنّان الاستثنائي الذي لم يرضَ أن يكون مجرّد امتداد لإرث عائلته الرحبانيّة، بل عمل على صياغة هويّة خاصّة تُزاوج بين العمق الفنّي والجرأة الفكريّة. ولد زياد عام 1956 في بيت غارق في الموسيقى والشعر؛ فهو نجل السيدة فيروز والأخوين عاصي ومنصور الرحباني، لكنه سرعان ما أثبت أنّ حضوره لا يقوم على النسب فقط، بل على موهبة فذة جعلته من أبرز الأسماء في الثقافة العربية المعاصرة.

المسرح الموسيقي: مختبر التجديد لزياد الرحباني

يُعد المسرح واحداً من أهم ميادين زياد الرحباني. فقد قدّم أعمالًا مسرحية غنائية ما زالت حيّة في الذاكرة مثل “بالنسبة لبكرا شو” (1978) و“فيلم أميركي طويل” (1980). في هذه الأعمال جمع بين السخرية السياسية، النقد الاجتماعي، واللغة اليومية البسيطة، ليُخرج المسرح من صورته التقليدية ويجعله قريباً من هموم الناس. كان المسرح عنده أشبه بمختبر يجمع الموسيقى، الكلمة، والتمثيل ليطرح أسئلة عن العدالة، الحرية، وتناقضات المجتمع اللبناني والعربي.

الموسيقى: مزج الشرق بالغرب

تميّز زياد الرحباني بقدرته على دمج الألوان الموسيقية. فهو عازف بارع على البيانو، درس الجاز وتأثر بالمدارس الغربية، لكنه في الوقت ذاته لم يتخلّ عن الجذور الشرقية. في مقطوعاته يتجاور اللحن العربي مع الإيقاعات الغربية، ليولد صوت موسيقي معاصر يتخطى الحدود الجغرافية. هذا المزج جعله مقبولاً في المحافل العالمية، حيث عُزفت مؤلفاته في أوروبا وأميركا، وتعاون مع موسيقيين عالميين في إطار تبادل ثقافي حيّ.

الأغنية السياسية والاجتماعية

لا يمكن الحديث عن زياد من دون التوقف عند أغنياته التي شكّلت مرآة لوجع جيله. في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، جاءت أعماله محمّلة بالرفض والتهكم والأمل الممزوج بالمرارة. أغنيات مثل “أنا مش كافر” و”شو هالأيام” لم تكن مجرّد أناشيد عابرة، بل تحوّلت إلى شعارات تتناقلها الألسن لأنها عبّرت عن قلق الناس وإحباطاتهم. بأسلوبه الساخر، وبصوته العفوي، جعل من الأغنية مساحة للنقد السياسي والاجتماعي، فجمع بين الفنّ والالتزام من دون أن يفقد جاذبيته الجماليّة.

اقرأ أيضاً: ليو تولستوي الروائي المتمرّد

زياد الرحباني

زياد الكاتب والصحافي

بعيدًا عن الموسيقى والمسرح، كتب زياد مقالات سياسيّة واجتماعيّة ساخرة في الصحف اللبنانيّة، مبرهناً أن قلمه لا يقلّ قوّة عن صوته وموسيقاه. في نصوصه ظهر مفكّر متمرّد، يرفض الانصياع للسلطة أو القوالب الجاهزة، ويتحدّث بلغة بسيطة قريبة من المواطن العادي. هذا التعدد في أدوات التعبير جعل منه “فناناً شاملاً” بالمعنى الكامل للكلمة.

حضوره العربي والعالمي

لم يقتصر تأثير زياد الرحباني على لبنان وحده. أعماله الموسيقيّة والمسرحيّة انتشرت في العالم العربي، وصوته أصبح مألوفاً لجماهير في مصر، سوريا، فلسطين، والخليج. أما عالميّاً، فقد شارك في مهرجانات موسيقيّة دوليّة، حيث استُقبل كمبدع قادر على أن يكون جسراً بين الشرق والغرب. إنّ تجربته في مزج الجاز بالمقامات الشرقيّة جعلت النقاد الغربيين يصفونه بالفنّان العابر للثقافات.

إرث متجدد

ورغم مرور عقود على بداياته، يبقى زياد حاضراً في وجدان الأجيال الجديدة. كثير من الشباب الذين لم يعيشوا زمن الحرب الأهليّة يجدون في موسيقاه وأغنياته تعبيراً صادقاً عن أسئلتهم الوجوديّة. لقد تحوّل إلى أيقونة فنّيّة وفكريّة؛ ليس لأنه ابن فيروز وعاصي فقط، بل لأنه استطاع أن يفرض نفسه كمبدع مستقل.

إن الحديث عن زياد الرحباني يعني الحديث عن فنّان لم يعرف الحدود بين الفنون، ولم يخضع لقيود السوق أو السياسة. إنه المسرحي الجريء، الموسيقي المجدد، الكاتب الساخر، والمثقف الملتزم. في زمن الانقسامات والسطحيّة، يظلّ زياد نموذجاً للفنّان الذي يجمع بين الأصالة والحداثة، وبين المحلّيّة والعالميّة.

حضوره الفنّي لا يُقاس بعدد الأغنيات أو المسرحيّات، بل بقدرته على أن يطرح أسئلة تبقى حيّة، وعلى أن يمنح الفنّ معنىً يتجاوز الترفيه ليصبح شهادة على عصره.

عامر فؤاد عامر
جدل نيوز

مقالات ذات صلة

1 تعليق

  1. أحسنت الكتابة أستاذ عامر الفنان زياد الرحباني صاحب بصمة خاصة ونادرة بعيدة عن التجارة بسوق الفن مساره وقلمه صادق وأعماله الفنية هي مرآة تعكس موهبتة الداخلية لتحاكي وجدان المتلقي وتترك الأثر الذي يدوم في الذاكرة البشرية وذاكرة الحياة ….
    شكراً أستاذ عامر

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات