السبت, أبريل 19, 2025

عرس الجليل وأكثر

عرس الجليل وأكثر: يبدو أن متابعة فيلم “عرس الجليل” – 1978 للمخرج السينمائي “ميشيل خليفي” تحرّض الذاكرة لاستعادة حادثةٍ ذكرها الإنجيل المقدس، ونقصد هنا “عرس قانا الجليل”، عندما حوّل السيّد المسيح عليه السلام الماء إلى نبيذ بعد نفاذه عند صاحب العرس.

يمكن اعتبار “عرس الجليل” وثيقة سينمائيّة راسخة بعلاقة الفلسطيني مع أرضه، نقل للمتلقي تفاصيل الفرح الفلسطيني من أغنيات، وفلكلور، وعادات، وتقاليد، وأزياء، ضمن البيت الفلسطيني، وخصوصيّته، عبر قالب روائي مميّز وجريء.

يعتبر فيلم عرس الجليل وثيقة سينمائيّة راسخة بعلاقة الفلسطيني مع الأرض، وفيه تفاصيل للفلكلور والأغاني والرقص والأزياء

إذاً “عرس الجليل” ينقل لنا بإغراقٍ وإسهاب تفاصيل العرس من منطقة الجليل الفلسطينيّة، ولحظاتٍ خاصّةٍ بالعريس والعروس، وطقس الاستحمام، والتجهيز، وارتداء الملابس المنذورة لهكذا يوم، والركوب على الفرس، واجتماع العروسين على المرتبة أمام الحضور، والانتقال إلى غرفتهما المجهزة بسريرهما، والملاءات البيضاء، وإلى ما هنالك من عادات وتقاليد ضمن جدران البيت الفلسطيني، وشرفاته، وباحة الديار الممتدة والمتلاحمة مع أشجار الزيتون والبساتين والبيارات، وروح النساء في تحضير أجواء العرس، وطهي طعام الضيوف، وتقديم المشروبات، وتوزيع المقاعد، وعلاقة النسوة المتكاتفة مع ذكور المكان المسيطرين، والمعلنين تفوقهم عليهم من خلال اتخاذهم للقرار، والسيطرة على المواقف بحق أو من دونه.

أنسن المخرج ميشيل خليفي – الذي كتب سيناريو وحوار الفيلم أيضاً – التفاصيل المذكورة أعلاه، من خلال زجّها في أحداث روائيّة، تكاد تكون محدودة بالنسبة لتفاصيل العرس التي التقطتها الكاميرا، لكنّها غاية في العمق من حيث رمزيّتها، وقد جاءت حياتيّة وقريبة من الواقع المُعاش، فتسرق انتباه المتلقي المحتفي بالعرس، كأنّه شريكاً مدعواً لحضور المناسبة، لكنّه في نفس الوقت يراقب ما يجري من أحداث منخرطة في هذا العرس الذي يفرض نفسه بالقوّة.

فيلم عرس الجليل للمخرج ميشيل خليفة والذي كتب سيناريو وحوار الفيلم أيضاً وهو أول فيلم مصوّر من الداخل الفلسطيني

تتعدد الأبعاد عندما نقول عن فيلم عرس الجليل عرس وأكثر ، فبين التقاط المشاهد لتفاصيل الفرح الفلسطيني، والعادات الشرقيّة المتوارثة من حضارات قامت وقضت على هذه الأرض، يكمن التلقي بين متعة ومعرفة، وتذهب بنا أبعاد الحكاية إلى صراع واضح المعالم بين العسكري الإسرائيلي المرتدي بزّته العسكريّة، والمدني الفلسطيني المحتفي بعرسه، فأحداث الفيلم تبدأ بسعي أبو عادل، مختار القرية، لانتزاع تصريح من الحاكم العسكري الإسرائيلي، لإقامة عرس ابنه عادل بكامل وقته في الليل والنهار، بحيث يجبر الحاكم أن يرفع حظر التجوّل الساري حينها في المنطقة عند الساعة الخامسة من عصر كلّ يوم، فيوافق الحاكم العسكري على طلب أبو عادل شريطة حضوره العرس مع عددٍ من الضباط والجنود الإسرائيليين، وهذا الشيء الأخير يُحدثُ بلبلةً بين أهالي القرية، فمنهم من قاطع العرس، ومنهم من تابع مع صاحب الشأن، الذي حاول إقناعهم بأن أولئك ضيوف ولا يجوز إغلاق الباب في وجه الضيف، ومنهم من خطط لاغتيال الحاكم العسكري بعد انتهاء مراسم الاحتفال.

ساعد الممثلون على تصديقنا ما يجري من احتفال ومصاعب استمراره، فكان كلّ شيء طبيعي حدّ المعقول، والابتعاد عن التصنّع، وكأنّ الممثل في هذا الفيلم يعيش الدور، ويساعد على لغة توثيقيّة، أرادها المخرج من خلال الانغماس في الدور كما هو، وهذا ما نجده عند الممثلين: علي محمد عقيلي، الذي لعب دور المختار المتعقل والذكوري المسيطر، وبشرى قرمان: العروس التي تلقّت صدمتها بعريسها العاجز، وكيفية إنقاذها الموقف بفضّ بكارتها حتّى ينتهي العرس بسلامٍ وليكن بعدها ما يكن، ويوسف أبو وردة، وغيرهم من الممثلين، وفي الفيلم مجاميع وممثلين كومبارس كثيرون، اجتمعوا لإحياء طقس الفرح، وملئ الجو الاحتفالي بما يناسب، فكانت الإدارة حقيقيّة لا سيّما مشاركاتهم الغناء، والرقص، والدبكات، والزجل، وغيرها مما يستلزم من أجواء الأعراس في بلاد الشام، وبالتحديد الجليل الفلسطيني.

أبدع الممثلون في فيلم عرس الجليل مثل علي محمد عقيلي وبشرى قرمان ويوسف أبو وردة

يتوازى الفكر الإخراجي مع مقولة الفيلم في غرس فكرة من هم أصحاب الأرض الحقيقيين؟ هل ما زعمه الإسرائيليون في أن أرض فلسطين مشاع ولا أحد يقطنها، مصدرة هذه الفكرة للعالم الخارجي، هل هو زعم حقيقي؟! أم سيستنتج المتلقي بأن من يقيمون العرس هم سكان الأرض الحقيقيين وهم من يتم التحكم بهم من قبل أولئك العسكريين، حتّى في وقت إقامة أفراحهم؟! كلّ ذلك سعى الفيلم أن يحققه ببساطة وانسيابيّة، ولذلك نشير إلى عنواننا عرس الجليل وأكثر، كما دعم الفيلم هذه الأفكار عبر حوادث مهمّة وقعت أثناء الاحتفال، فعندما هربت الفرس الأصيلة، ولم يتمكن الأطفال من السيطرة عليها، انعتقت تجري عبر السهول، لتستقر في منطقة حقل الألغام، مما اضطر أبو عادل الطلب من الضابط الإسرائيلي إنقاذ الأصيلة، لكن الأخير مع جنوده لم يتمكنوا من ذلك، حيث استخدموا طلقات النار لترويع الفرس، كي تخرج من منطقة الألغام، في حين أرغمهم أبو عادل على إسكات صوت النار، واقترب بنفسه من المنطقة عبر خارطة الألغام التي يمتلكها الضابط، ونادى الفرس بصوته عدّة مرّات لتأتي إليه بكلّ سلام، وتعود معه إلى إسطبلها سالمة غانمة، ولا تقف دلالات هذا المشهد هنا فلغة الإسرائيلي هي الرصاص والقوّة، والتي لن تجدي نفعاً حتّى مع الكائنات الأخرى.  

كانت الموسيقى التصويريّة من نسج الموسيقي “جان ماري سنيا”، فبالإضافة للون الفلكلوري، واللغة التراثيّة الجميلة، التي ساهمت في التكوين العرس المميّز، ساعدت الموسيقى في الوصول إلى العوالم الداخليّة الجوانيّة للشخصيّات والنقاط المفصلية في الحكاية.

حكاية الفيلم تبدأ باشتراط الحاكم الإسرائيلي العسكري حضوره العرس مع جنوده حتى يأخذ المختار تصريح إقامة العرس

أمّا حركة الكاميرا؛ فكانت حرّة تحاول التقاط القدر الأكبر الممكن من التفاصيل التراثيّة أوّلاً، والمرتبطة بكلّ شخصيّة على حدى ثانياً، كما أنّ اللقطات أظهرت جمال الطبيعة بأشجارها وبساتينها، وتداخل النبات مع عمارة البيوت، كما بينت الميزان الداخلي للبيت الفلسطيني، بما يحتويه من أدوات، وعلى وجه التحديد، لقطات إدخال النسوة الجنديّة الإسرائيليّة “تالي” بعد الإعياء والتعب اللذان حلّا بها، فرأينا العطور، والورود، والثياب، والأدوات، التي تتزين بها النساء على عكس لبوسها الذكوري في التصرفات ناهيك عن البزّة العسكريّة، وغيرها من التفاصيل.

احتلّ التلوين مساحة مهمّة من تكوين الفيلم، فنرى شيئاً من الحكاية بعتمةٍ واضحةٍ، وألوان داكنة، تشتكي الاغتصاب، وحلول الغريب بين أرجاء حكاية الفيلم، لكن على الرغم من ذلك استخدم المخرج سطوع معيّن يشي بانتصار الفرح، والحضور النسوي في تعديل المزاج عبر خواتيم الحكاية.

تفض العروس بكارتها لتنقذ الموقف وينتهي العرس بسلام وهو دليل تقديم المرأة نفسها للحل من أجل السلام وإتمام الأمور على خير

جاء زمن القصّة محدداً في سنة من السنوات الممتدة بين العامين 1948 و1967 في إحدى قرى الجليل، وارتبط القسم الأكبر من الأهازيج والأغاني مع تلك المرحلة، لكن هناك أغنيات ومنها ما حمل أسماء تدلّ على أنّها من مرحلة السبعينات والثمانينات، لكن يجاز الأمر في حال أراد المخرج أن يقول إن الصبغة والإرادة الفلسطينيّة تظل واحدة وباتجاه هدفها ستبقى.

نهايةً، هناك المزيد من العناصر التي أغنت الفيلم، ومنحته خصوصيّة، وعلامة فارقة في تاريخ السينما الفلسطينيّة، كالأزياء، ولغة الحوار، ولحظات الصمت، والتدفق المتوازن لسرد الأحداث، وغيرها، كما ويُعدّ هذا الفيلم أوّل فيلم روائي فلسطيني مصوّر من الداخل الفلسطيني، وقد نجح في اقتناص فرصته ليكون محطّة مميّزة، وليكون عرس الجليل وأكثر.

عامر فؤاد عامر

جدل نيوز

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات