صوت بلاد الشام
عانى تراث بلاد الشام قديماً العديد من الصعوبات، التي وقفت عائقاً أمام انتشاره، فمنذ أوائل القرن الماضي، كانت الأقطار العربيّة، باستثناء مصر، تفتقر إلى تقنيّات التصوير السينمائي، الذي كان الوسيلة الوحيدة للانتشار عربيّاً، على الرغم من أن نجوم بلاد الشام، أثْرَوا السينما المصريّة بفنهم غناءً وتمثيلاً، منهم أسمهان، وفريد الأطرش، ونور الهدى، والشحرورة صباح، وغيرهم.
بدأت هويّة الفنّ السوري واللبناني تنال مرتبةً عاليةً عربيّاً في منتصف القرن الفائت، وعلى الرغم من كثرة الأصوات السوريّة واللبنانيّة حينها، إلا أن أغلبها قدّمت ألواناً فنّيّة لا تُعبّر عن تراث بلاد الشام، حيث كان هذا طريقهم الأسرع للنجاح.
سطعت في العقد الخامس من ذلك القرن موهبة الأستاذ صباح فخري المتفرّدة، فنشر التراث السوري، والحلبي خاصّةً في بقاع العالم، وفي الحقبة ذاتها ظهرت سفيرتنا الى النجوم السيّدة فيروز، لتبدأ مسيرتها الفريدة، حملت فيروز لواء الأغنية اللبنانيّة والسوريّة على عاتقها، فتسلّح صوتها بقضيّة سوريا الكبرى، متحدّيةً ما رسمه الاستعمار من حدود تفصل بين أهالي بلاد الشام.
سجلت فيروز العديد من أغنيات تراث الشام، والبادية، والساحل، وارتبط اسمها بمهرجان معرض دمشق الدولي، منذ العام 1958 حتّى العام 1977، باستثناء العام 1965 لظروف حملها، كما قدمّت لسوريا أكثر من 20 أغنية وطنيّة سطّرها التاريخ السوري في صفحاته الذهبيّة.
كان من معاصري فيروز الملتزمين بقضية بلاد الشام الأستاذ نصري شمس الدين، والأستاذ وديع الصافي، ثمّ ظهرت السيّدة سميرة توفيق، التي اختارت لصوتها ثوب البادية السوريّة والأردنيّة، ثمّ الأستاذ ملحم بركات، والأستاذ سمير يزبك، وغيرهم.
إلى أن سطعت شمس الأغنية اللبنانيّة في منتصف الثمانينيّات، ورسمت لنفسها مساراً ثابتاً اجتازت خلاله الكثير من الصعوبات في مسيرة تجاوزت الآن الثلاثين عاماً من إثراء فنّ لبنان، وبلاد الشام.
احتضنت سوريا ابنتها نجوى كرم منذ العام 1987، وأسست نجوى في سوريا دعائم مجدها الفنّيّ، فكانت انطلاقتها القويّة عربيّاً من خلال مشاركتها في مهرجان الحركة التصحيحيّة في دمشق 1992 لتنطلق منه إلى أكبر المهرجانات عربيّاً ومنها قرطاج.
أحيت نجوى للسوريين عشرات الحفلات سنويّاً، إلى أن أصبح لقبها الرسمي في سوريا (مطربة سوريا ولبنان)، على مدار أكثر من ربع قرن، وفي هذه المسيرة الحافلة قدّمت نجوى إلى سوريا أغنيات تُخلَّد بصوتها الشامخ، نذكر بداية موال (جبلها وديرها) من مهرجان الحركة التصحيحيّة 1992، ثم موّاليّ (انهد الركن)، و(يا نجمة الشط) من مهرجان المحبّة والسلام 1994، وموّال (الجموا خيول الإمارة) من حفل معرض دمشق 1995، وأغنية (منرفع ايدينا) من حفل تجديد البيعة بدمشق 1995، وموّال (تنعشق أرضنا) من حفل تجديد البيعة 1998، وأغنية (عدروب الشام) 1998، وأغنية (بدنا نحافظ) 2000، وموّاليّ (سوريا بعد ما غبنا وعدنا)، و(جاي سوريا لكي) في حفل وادي النصارى العام 2019، و موّاليّ (سوريا للدني الله وديها)، و(يا سوريا أنا رجعت) من مهرجان قلعة دمشق 2022. كثيراً ما غنّت نجوى كرم باللهجات السوريّة والأردنيّة إلى جانب اللبنانيّة نذكر منهم: (فوق النخل، الله يا جملو، سكابا، دلعونا، هيكالو، زينوا الساحة، يا حيا الله، عاللالا، عتابا، أبو الزلف).
كما تعاونت نجوى مع عدّة كتّاب وملحنين سوريين في عشرات الأغنيات ضمن مسيرتها، منهم الشاعر صفوح شغالة، وعامر لاوند، والملحن جورج مارديروسيان، وعلي حسون، وغيرهم.
منذ عقد التسعينيّات حملت نجوى كرم لقب (مطربة معرض دمشق الدولي)، لترث هذا اللقب عن السيّدة فيروز، غنّت نجوى على مسارح المعرض لأوّل مرّة العام 1993، لتكرّر التجربة في العامين التاليين 1994 و1995 ثمّ تعود في الأعوام: 1999 و2004 و2009 و2010 .
كما ارتبط اسمها بالعديد من المهرجانات السوريّة مثل: مهرجان (المحبّة والسلام)، ومهرجانات (الحركة التصحيحيّة)، ومهرجان (القلعة والوادي).
كان اسم نجوى كرم وأغنياتها طوال هذه السنوات موجودين باستمرار في عشرات الأعمال الدراميّة السوريّة منذ التسعينيّات حتّى اليوم، في دورها اختارت نجوى ظهور الممثّل السوري معتصم النهار إلى جانبها في كليب (مغرومة) 2021، وزارت سابقاً أطفال اللاجئين السوريين في المخيّمات اللبنانيّة، وعرضت مشاهد من زيارتها لهم كرسالة إنسانيّة في كليب يخرب بيتك 2015، وفي العام 2000 أحيت نجوى حفلاً خيريّاً لأبناء الشهداء في دمشق، كما صوّرت في دمشق أيضاً فيديو كليب (خيروني) العام 1995، في ذلك العام أجرت نجوى لقاءً تلفزيونيّاً مطوّلاً في التلفزيون السوري، تعتبره نجوى من أهمّ لقاءاتها التي عرفت الجمهور بها في بداياتها .
أمّا مدرّج بصرى الأثري، الذي أحيت فيروز على مسرحه العريق حفلاً تاريخيّاً بعد غيابها عن مهرجانات سوريا عشر سنوات، شهد مسرحه آخر ظهور لشمس الاغنية على مسارح سوريا في حفلها الكبير بتاريخ 11-11-2010 قبيل الحرب في سوريا.
بعد غيابها تسع سنوات عادت نجوى لإحياء حفلاتها العظيمة في سوريا، إلى أن أحيت في السعودية مهرجان (قمم الدولي) العام 2023، حيث فاجأت جمهورها بغناء “ميدلي” جديد يضمّ سبع أغنيات من تراث بلاد الشام، تبدأه بأغنية (شفتك يا جفلة) من تراث اللاذقيّة، ثمّ (عزموني عالعشا) تراث ساحلي، وأداها سابقاً العديد من النجوم، منهم الأستاذ طوني حنا في حفلة في سوريا العام 1970، أمّا أغنية (بويا شيخ العشيرة) سجلتها الفنّانة السوريّة سعاد توفيق العام 1980، وهي أغنية من تراث دير الزور، مسقط رأس المطربة سعاد، التي غنّت أيضاً (راكب عالعبية) العام 1980، كما أطلقت أغنية (تلات بنيات)، التي جددتها مادونا لاحقاً، تتابع نجوى الـ”ميدلي” في أغنية (لالي لالي)، وهي من التراث الساحلي أيضاً، وقد صوّرها الفنان عاصي الحلاني منذ سنوات على طريقة الـ”فيديو كليب”، ثمّ أغنية (يا قضامة معطّرة) من التراث الشامي، ثمّ (اتنقل يا غزالي)، و(عالعين موليتين) من تراث البادية.
قدمت نجوى على مدار العام الماضي هذا الـ”ميدلي” في جميع حفلاتها بالأقطار العربيّة وخارجها، و بدوره جمهور سوريا يبادل نجوى الوفاء ذاته، منذ انطلاقة مسيرتها المرصعة بأرز لبنان، وشموخ بلاد الشام، ولأنّ بين نجوى كرم وسوريا قصّة حبّ ووفاء لا تنتهي، تستحق نجوى أن يضاف إلى ألقابها لقب ( صوت بلاد الشام ).
بقلم يوسف يوسف