وظّف نصر محمد الإدهاش مغلفاً إيّاه بالتساؤل مقدّماً اعترافاته الذاتيّة على هيئة تعانق الخيال مع الحاضر، فجاءت النصوص على هيئة حرائق متشعّبة اللهيب، هذا ديوانه الثاني الذي بدا لمّاحاً في غالب نصوصه وغارقاً بالعشق بل ومحتضّراً به، قراءتي الانطباعيّة تسبر اللغة لتكتشف لذّة المضي في براري تلك اللغة المفصّحة عن عوالم شجيّة، تبعث على رغبة في التأمّل ومواكبة الجماليّات الكامنة في سلاسة اللغة بعيداً عن التكلّف والتعقيد وتقصُّد الغموض حدّ الحذلقة التي لا جدوى منها.
ففي حضرة الشعر على وجه الخصوص سيقول المتذوّق إحدى شيئين: إمّا أنّه مستمتع أو أن يلتزم الصمت وعدم التعليق، فإن يمسنا النصّ معناه أنّه قد استطاع أن يوغل في مسامات الروح إيغال الإبرة المنغرسة داخل مسام الجلد مخترقاً طبقاته، بيد إنّي في عوالم نصر محمد عازم على لوي عنق الرتابة والخروج من فخاخ تلك النصوص بقلبي وذهني المتأهبين لخوض قراءة متأنية فمرّة أعيش حالة انشداه ومرّة أخرى أعيش دور المحكّم للنصوص واضعاً نصب عيني أن أخترق مراميز ذلك النصّ منتشلاً النفيس غير المرئي منه لأصله بقول أو بحكمة أو بشيء متّصل بالعلوم الإنسانيّة كما جرت العادة، لأقول ما قد يقوله قاضٍ في محكمة تتشعّب في متنها القضايا المتشابكة العصيّة هنا، (ص9 ):
عندما أحببتك
تغيّرت علاقتي مع السماء
تسلل الصحو إلى نوافذي
صار قلبي شمعة
تنقط الشوق على صمت الرجاء
لقد أفادنا تكرار مفردة عندما أحببتك في إشارة إلى تأكيد وجداني ورغبة في الاعتراف بكلّ ما هو طيّ الكتمان، بما لا شكّ فيه فإنّ الذاكرة وعاء الشاعر يستمدّ من خلالها روعة الأيّام الخوالي، عندما وقع قلبه في حفر العشق المضطرم وظلّت تلك الاعترافات مهملة حتّى آن آوان تجليها إنّما على حين غرّة ومن دون مناسبة أو ميعاد لتدفق ما بالداخل لا يسعني في هذا الصدد سوى ذكر بعض من المقوّمات التي اتكأ عليها الشاعر “نصر” في هذا الديوان؛ ما يتعلّق ببناء القصيدة، تحديداً المقارنة بين الماضي والحاضر، والتنقل بينهما لعلّ قصيدة حلم الطفولة قد عبّرت عن هذا الانتقال الزماني والمكاني – اللذين شغلا الشاعر عنصر الإدهاش الذي كان نصر محمد عند استخدامه على قدر من الفطنة في اللعب على أوتاره ليثير الانتباه وليبعث نصّه – هنا على الإطراب من دون غياب الفكرة التي يتمّ استنباطها من خلال فهم المدارك الداخليّة الغائصة في الذهن والمتعلّقة بالنزعة التشاؤميّة، التي لابدّ أن يلتحف المرهف بعباءتها حتّى يذكي على المناخ العام جوّاً من الدراما الإنسانيّة، قصيدة ذات يوم ص.14

اتخذ الشاعر أسلوب السهل ليعبّر عن حكمة ماثلة في لغته ولا يعني السهل الانزلاق لقعر الضحالة بقدر ما يعني الوضوح والميل إلى إخراج الحكمة من تجارب الألم، ومعاناة المرء في الماضي.
الوصف في الشعر الوجداني كان له حيّزاً في شعره حيث موضوع التغزّل الأزلي للمرأة يعاد إلى الواجهة كما كلّ مرّة ليعبّر عن عظم العلاقة بين الرجل والمرأة “علاقة الشاعر الوطيدة بالمكان إذ يعتبر مبعثاً رئيساً للشعر بالنسبة إليه” قصيدة في عامودا- توقظه تفاصيل المكان ويودّ تجسيد اللحظات الجميلة التي جمعته بهذه وتلك مستخدماً صوراً حسّيّة ومعنويّة تفصح عن مدى انشغاله بالآخر “قصيدة في محطّة القطار” ص36 . الاتصال بالآخر والتعمّق في دلالة العلاقات الإنسانيّة المفصحة عن الانتماء للناس على نحو عفوي وإنساني بعيد عن روائح الإيديولوجيا والاصطفاف المقيت “قصيدة اشتياق” ص 46، استمد الشاعر هنا البناء الشكلي من قصيدة الومضة أو الهايكو اليابانيّة ليعبّر عن عدّة أشياء مدمجة بتكثيف جلي في بضع عبارات راح يطلقها كي تعبّر عن الحالة الشعوريّة المتدفقة لديه “قصيدة همسات وشذرات” ص52.
ديوان الشاعر هنا متّصل بشكل وثيق بالذاكرة، هروب الشاعر إلى الماضي بمثابة نقل حصيلة جهود وتجارب للقراء من بوابة الشعر دون سواه، يعبّر نصر محمد من خلالها إلى حاجته لمحيط من الأصدقاء الودودين يشاركهم أحلامه، خلجاته، وحنينه لحياة النقاء، الطفولة والبراءة وحدة الشعوب بالحبّ.
خلاصة:
يأتي إلى ذهني ذكر ما قاله شكسبير عن فنّ النسيان الذي يتمنّى لو أنه اقترفه فيقول: “متى ما استسلمت إلى جلسات الفكر الصامتة العذبة، أستحضر ذكرى الأشياء التي مضت، أتنهّد لعدم وجود الكثير من الأشياء التي سعيت إليها ومع المشكلات القديمة والنحيب الجديد يضيع وقتي العزيز”.
في فهمي لعبارات شكسبير هذه مقارنة مع الحالة الشعوريّة لنصر محمد لا أجدني إلا ممعناً في فهم مشقّة مزاحمة الشاعر للزمن المتسارع والوقت الذاهب للفناء والعدم، حيث يشعر المتلقي والناقد بالشجون العديدة وهو يتصفّح نتاجاً محمّلاً بالكثير من الآمال والآلام، العشق واللهفة، الحنين إلى المكان الأوّل، فلا يلقى إلاه هائماً عبر الكلمة في ذلك المدى الحالم بعالم جميل يسود فيه الفنّ على الواقع منتصراً أبداً.
دوسلدورف- 10.03.2024