بعد مراحل التطوّر التي طرأت على الأغنية العربيّة قد لا يبالي المتلقي العربي بمعرفة مسار هذا التطوّر تاريخيّاً، والذي كان أبرز روّاده: الدكتور (ميشيل بيضا)، وله الفضل الأوّل في صناعة الأغنية العربيّة، ولأهمّيّة الدور التاريخي الذي يمثّله هذا الرجل أُقدّم بحثاً مطوّلاً حول تأسيسه لشركة الأسطوانات العربيّة الأولى تحت اسم (بيضافون)، وشاركتُ جزءً من بحثي المطوّل عبر وثائقي إذاعي لصالح الإذاعة الألمانيّة الشهيرة ” Deutschland radio ” وذيعَ هذا اللقاء بتاريخ السادس والعشرين من مارس – آذار 2025.
يتمحور ذلك الوثائقي حول ثلاث نقاط رئيسة، الأولى وهي بطاقة تعريف بالدكتور (ميشال بيضا)، والنقطة الثانية هي أهمّيّة شركة (بيضافون) كأوّل شركة عربيّة لتسجيل الأسطوانات واعتمادها في بدايتها على التسجيل في برلين، والنقطة الثالثة هي الدور الإيجابي الذي مثّلته السيّدة “هيلدا” في الحياة الزوجيّة والعمليّة للدكتور (بيضا).
أثناء التحضير لهذا الوثائقي كنتُ مُصرّاً على أن تكون أسمهان محوراً رئيساً في الوثائقي لارتباطها الكبير بالدكتور (بيضا) وبشركته، وتوصّلت في بحثي حول الدكتور (بيضا) إلى ثلاث صور تجمعه بأسمهان كما توصّلت إلى مواليده الحقيقيّة، وفي بداية التعريف عن الدكتور (بيضا)، اسمه الكامل (ميشال حنّا بيضا)، من مواليد لبنان، منطقة المصيطبة – شارع بيضا – العام 1881 .
وهو الأخ الأصغر للسيّدان (بطرس وجبران بيضا) اللذان كانا يعملان في مجال البناء في لبنان قبل تأسيس شقيقهم الأصغر لشركة بيضافون، بدأ ميشال مراحلهُ الدراسيّة في لبنان ثمّ انتقل إلى برلين لدراسة الطبّ، وفي العام 1906 أسس ميشال شركة بيضافون في لبنان، وسُجلت أولى اسطواناتها في برلين للمطرب (فرج الله بيضا)، وهو ابن عمّ الدكتور ميشال، وبعد مرور عام واحد بدأت الشركة تستورد المهندسين والمعدّات الأوروبيّة إلى لبنان، وبدأت الشركة تسجل الأسطوانات في لبنان العام 1907 ، وظلّت الشركة معتمدةً على فرعها الوحيد في لبنان حتّى العام 1914 ثمّ أنشأت فرعاً لها في القاهرة.

كان الدكتور (بيضا) يدير فرع شركته في مصر، وكان مسؤولاً عن الإدارة الخارجيّة لفرعها في لبنان، أمّا أخويه بطرس وجبران فكانا يديران الأمور الداخليّة للفرع اللبناني، لكن لم يُذكَر أيّ دور ملحوظ للسيّدة هيلدا بيضا بخصوص هذه الشركة!
محمد عبد الوهاب المدلل اللدود!
كان الفنّان محمد عبد الوهاب في العام 1925 من أبرز الفنّانين الصاعدين في مصر آنذاك، وأصبح الولد المدلل لشركة بيضافون، وحظي فيها بالنصيب الأكبر من تسجيل الأسطوانات حتّى خلافهما العام 1939.
أسمهان الفرصة الذهبيّة
عرف الدكتور بيضا أسمهان وهي صغيرة، حيث أنّ شركة بيضافون سجلت عدّة أسطوانات لوالدة فريد وأسمهان السيّدة (علياء المنذر)، وابن عمّها المطرب الكبير (يوسف تاج المنذر) في بداية العقد الثالث من القرن الماضي، وكان الدكتور بيضا آنذاك يتردد إلى منزل أسرة (الأطرش) في مصر، ويسمع أسمهان تغنّي في غرفتها، ويثني على صوتها، إلى أن سجلت أسمهان اسطوانتها الأولى العام 1931 لصالح (شركة كولومبيا)، وهي شركة أمريكيّة كان لها فرع في مصر، استمرّت أسمهان في مجال الفنّ إلى أن أعلنت اعتزالها منتصف العام 1933 وتزوّجت ابن عمها الأمير حسن الأطرش واستقرّت معه في السويداء .
إنعاش أسمهان مجدداً
خلال فترة زواج أسمهان وغيابها عن مصر سجّلت والدتها مجموعة اسطوانات لصالح شركة بيضافون، وفي العام 1936 حصل حدث مفصلي في حياة أسمهان، وهو لقاؤها بالدكتور بيضا في أحد أسواق دمشق، وإقناعها بأهمّيّة عودتها إلى مصر لاستكمال مسيرتها الفنّيّة، وكانت حياة أسمهان المضطربة في السويداء دافعاً كبيراً لسماح زوجها لها بزيارة مصر، وأبرز تلك الدوافع خضوعها في مصر للعلاج من أجل الإنجاب السليم، حيث أنّ مولودها الأوّل (يحيى) توفي العام 1935 بعمر بضعة أشهر، وتوفيت ابنتها (وداد) العام 1936 بعمر بضعة أشهر أيضاً، كما يُحكى عن مضايقات متتالية تعرّضت لها أسمهان من شقيقات الأمير حسن، زارت أسمهان مصر برفقة زوجها، ولكنّه عاد بعد أيّام قليلة بمفرده الى سوريا، وهنا انتهزت اسمهان فرصتها في تسجيل بعض الأسطوانات لشركة بيضافون، وأحيت حفلاً للإذاعة المصريّة.
صدرت أولى أسطوانات اسمهان لصالح بيضافون في العام 1937 وتقاضت على تسجيل كلّ أسطوانة ضعف المبلغ التي تتقاضاه والدتها من الشركة، وأنجبت أسمهان طفلتها الوحيدة (كاميليا) في شهر يوليو/ تموز، ورفضت العودة إلى سوريا، فاستمر تعاونها مع شركة بيضافون حتّى العام 1940.

من برلين إلى سويسرا
بسبب الحرب العالميّة الثانية توقّفت الشركة عن تصنيع اسطواناتها في ألمانيا فعقدت بيضافون صفقة لتصنيع الأسطوانات مع سويسرا بسبب موقفها المحايد من الحرب.
مقاضاة الشركة بسبب أسمهان …!
من أوّل المشكلات التي واجهتها الشركة بسبب أسمهان هي دعوى قضائيّة رفعتها الفنّانة (بهيجة حافظ) بعد إصدار الشركة أسطوانة (ليت للبراق) بصوت أسمهان العام 1938 من دون شراء حقوق الأغنية من السيّدة بهيجة، التي أصدرتها في أحد أفلامها، فربحت (حافظ) الدعوى، وحصلت على تعويض من الشركة، ومنعت قانونيّاً بيع أسطوانة أسمهان في مصر، لكن الشركة استطاعت بيعها في لبنان ودمشق.
صراع أسمهان وعبد الوهاب فتح أبواب جهنم على الشركة
نجحت أسمهان ومحمد عبد الوهاب نجاحاً كبيراً في أغنيتي (محلاها عيشة الفلاح) و(مجنون ليلى) بعد صدورهما مطلع العام 1938 فقررت شركة بيضافون أن تكرر ذلك التعاون الناجح، فكلّفت الأستاذ محمد عبد الوهاب بتلحين قصيدة اختارت أسمهان غنائها للشاعر الأخطل الصّغير بعنوان (أسقنيها)، لكن اللحن الذي قدّمه عبد الوهاب للشركة لم يلقَ الاستحسان المطلوب، وبعد جدال طويل رفض محمد عبد الوهاب تعديل أيّ علامة في لحنه، وقرر غناء القصيدة بنفسه، وطلب تنازلاً من الشاعر، لكن بشارة الخوري استطاع التهرّب من عبد الوهاب، وقدّم القصيدة لأسمهان ثمّ لحّنها القصبجي، وأصدرتها الشركة أواخر العام 1938، وكتبت شركة بيضافون في أحد إعلاناتها لأسطوانة (أسقنيها) أنّ لحن القصبجي كان أفضل من لحن عبد الوهاب، فنشب الخلاف بين عبد الوهاب والدكتور بيضا، وبعد مدّة وجيزة استطاع عبد الوهاب الضغط على الدكتور بيضا حتّى وافق الأخير على شراكة عبد الوهاب له مناصفةً بفرع الشركة المصري، وبعدها بفترة قصيرة استطاع عبد الوهاب شراء النصف الثاني من أسهم الشركة في مصر، وقام بتغيير اسمها إلى “كايروفون” وأصبحت شركته الخاصّة لإنتاج أعماله الفنّيّة في بداية العقد الرابع من القرن الماضي، واستطاع عبد الوهاب ردّ الصاع صاعين بعد جرح كبريائِه، هذا ورغم إجابته الديبلوماسية حيال هذه القضيّة في إحدى مقابلاته الصحفيّة، حيث صرّح أنه اشترى أسهم الشركة لتسجيل موسيقاه بحريّة، لأنّ شركات الأسطوانات كانت تسجل الأغنيات فقط لضمان الربح المادّي بينما ترفض تسجيل أسطوانات موسيقيّة فقط!
الدكتور بيضا منتج أوّل فيلم سينمائي لفريد وأسمهان الأطرش
صدرت آخر أسطوانات أسمهان لصالح بيضافون العام 1940 وفي نفس العام قرر الدكتور بيضا إنتاج أوّل فيلم سينمائي بطولة فريد الأطرش وأسمهان، ثمّ بعد توقيع الطرفين على العقد تنازل الدكتور بيضا عن إنتاج الفيلم للأخوين تلحمي، أمّا الفيلم فأبصر النور مطلع العام التالي بعنوان (انتصار الشباب).

بيضافون وعهدها الجديد
بعد شراء عبد الوهاب أسهم الشركة في مصر خسر الأخوة بيضا سوقهم الأساسي لكنّهم استمروا بإدارة الشركة في لبنان إلى أن توفي الأخوة بيضا، وكان آخرهم الأخ الأصغر الدكتور ميشال الذي توفي العام1955 ثمّ انتقلت ملكيّة الشركة في لبنان إلى عدّة وَرَثة من آل بيضا، استطاعوا الاستمرار والنجاح عدّة سنوات، وسجلت الشركة عدد كبير من الأسطوانات لفنّاني لبنان الناشئين آنذاك أمثال فيروز، ووديع الصافي، وصباح، وغيرهم.
بقلم يوسف يوسف