طليع حمدان … آخر حراس الزجل اللبناني
لا يفقد لبنان برحيل الشاعر طليع حمدان زجّاله فحسب، بل يفقد أحد آخر الحراس على بوابة فنٍّ لبنانيٍ عريق بدأ يتراجع في زمن الشاشات السريعة والمنصّات القصيرة.
حمدان، الذي رحل بهدوء الجبل وكرامته، لم يكن مجرّد شاعرٍ يُلقي أبياتاً موزونة في المهرجانات، بل كان صوتاً متفرّداً في معركة الكلمة، حمل الزجل من التسلية إلى القضيّة، ومن الغناء إلى الموقف.
منذ بداياته، كان واضحاً أن طليع حمدان مختلف. لم يدخل ساحة الزجل ليشبه من سبقه، بل ليُضيف إلى هذا الفنّ روحاً جديدة تحمل نبض الجنوب اللبناني وصلابة الأرض التي نشأ عليها.

كان يرى في الزجل هويّة لبنانيّة لا تقلّ عن الأرز والعَلَم، ويؤمن أن القصيدة يمكن أن تكون سلاحاً ثقافيًا لا يُطلق إلا في وجه الزيف والخذلان.
في زمنٍ صار فيه الشعر عرضاً صوتيّاً، بقي طليع حمدان يكتب من أجل المعنى.
كلماته كانت تشبهه: حادّة وصادقة، تمزج بين الحنين والفخر، بين الغضب والأمل، ولم يكن يهمّه التصفيق بقدر ما كان يهمّه أن تصل الفكرة وأن تبقى الكلمة طاهرة.
كان خصومه في المنابر الزجليّة يعرفون أن منافسته ليست سهلة، حيث لم يكن يُجيد المجاملة، بل أجاد المواجهة بالحرف.
ولأنّ الكلمة عنده موقف، فقد اشتهر بجرأته في التعبير عن رأيه، سواء في السياسة أو في المجتمع أو في الفنّ نفسه.
وفي كلّ معركةٍ شعريّةٍ، كان حمدان يخرج منها منتصراً بالاحترام، حتّى من خصومه.
لكن أهمّ ما يثير الجدل في سيرة طليع حمدان ليس فقط موهبته، بل مكانته في مشهدٍ زجليٍّ بدأ يشيخ.
فبينما انشغل بعض الزجالين في استعراض الأصوات واللحن، بقي حمدان وفيّاً لروح الزجل الأصليّة، تلك التي تقوم على الكلمة والفكر والكرامة.
من هنا، يصبح رحيله سؤالاً ثقافيّاً قبل أن يكون خسارة شخصيّة: هل ما زال للزجل مكانٌ في لبنان الحديث؟ وهل يمكن لهذا الفنّ الشعبي الاستمرار من دون رموزه الكبار الذين حملوا القصيدة على أكتافهم لعقود؟
ربّما لم يكن طليع حمدان نجماً تلفزيونيّاً بقدر ما كان صوتاً من وجدان الناس، كانوا يجدون فيه صورة الأبّ والشقيق والصديق، لا الشاعر البعيد في برجٍ من كلمات.
وفي زمنٍ تتغيّر فيه القيم بسرعة، بقي حمدان ثابتاً على مبدأ أنّ الشاعر لا يساوم على كلمته، وهي قاعدة بنى عليها مسيرته كلّها، ولعل أكثر ما يُميّزه هو الصدق، فالصدق الذي يجعل شعره يُقال اليوم كما كُتب قبل ثلاثين عاماً، دون أن يفقد حرارته أو معناه.
الصدق الذي جعل قصيدته قادرة على أن ملامسة جمهور لم يعش زمنه، لكنّها تشبهه في انتمائه وبساطته.
رحيل طليع حمدان ليس فقط فقدان شاعرٍ كبير، بل انطفاء ضوءٍ من زمنٍ كانت فيه الكلمة تصنع الموقف، زمنٌ كانت فيه الساحة الزجليّة منبراً وطنيّاً، لا مجرّد منافسة على الألقاب.
في المشهد الثقافي اللبناني اليوم، يبدو أن غيابه يفتح الباب أمام مراجعة حقيقيّة، إذّ كيف نحافظ على الزجل كجزءٍ من الهويّة اللبنانيّة؟ وكيف نعيد إليه مكانته في وجدان الأجيال الجديدة التي تربّت على الإيقاع السريع للمنصّات؟
قد لا يكون الجواب سهلًا، لكن ما هو مؤكّد أن إرث طليع حمدان سيبقى حاضراً في الذاكرة الزجليّة، كصوتٍ من ذهبٍ لم يعرف الصدأ.

صوتٌ علّمنا أن الكلمة ليست ترفاً، بل مسؤوليّة، وأن الشاعر لا يُقاس بما كسب، بل بما ترك من أثرٍ في النفوس.
سلامٌ لروحٍ قاومت بالصوت، ورفعت الشعر إلى مقام الكرامة.
وسلامٌ لزجلٍ فقد أحد فرسانه، لكنه لم يفقد روحه.

