أذكر أنني كنتُ في الثّامنة حين سمعت رجلاً مسنّاً من قريتي، وهو واقف عند سفح جبل ليلون (في ريف عفرين)، يطلق نداءً عالياً لا يشبه الدعاء أو البكاء. كانت كلماته
مبعثرة، لا تستقرّ في جملة، إلا أنّ صداها يرتدّ من الصخر كما لو أنّ الجبل نفسه يردّد حزناً دفيناً. سألته: “من تنادي؟” قال وهو يحدّق في الأفق: “أخي الذي لم يعد، لعلّ
الجبل يرسل صوتي إليه”. منذ ذلك اليوم، صار الجبل في عيني كائناً له لغة خاصّة به، ومُستودعاً لأصوات البشر التي لم تجد طريقها إلى أي أذن أخرى.
ويمكن القول: إنّ هذه اللحظة الشخصيّة عند سفوح جبال كردستان الشمالية (بشكل خاصّ) كشفت لي عن حقيقة ثقافيّة عميقة، وهي أنّ الجبال في الوعي الكردي ليست
تضاريس جغرافيّة فقط، إنّما هي فضاء حيّ، ووسيط أنثروبولوجي يتبادل معه الإنسان الأصوات. إنّ هذا الطقس الصوتي، الذي سنتتبعه عبر مقامات اللاووك وصرخات
الـ”هاوار”، يمثل استراتيجيّة وجوديّة تختلف عن وظيفة التّواصل العادي، إذ إنه محاولة لمد جسور الصوت إلى عالم الغائبين والموتى، وتحويل الجغرافيا الصامتة إلى أرشيف
حي للذاكرة الجماعيّة والفرديّة.
تخصيص الظاهرة والوظيفة
تتبدّى هذه الظاهرة بوضوح خاصّ بين الكرد في مناطق جبليّة محددة مثل: عفرين وبوتان، حيث شكلت التضاريس الوعرة عنصراً رئيساً في الحفاظ على هذا الطقس.
فالنداءات التي تُطلق من الأعالي لم تكن أداة للتواصل مع بشر بعيدين، إنما هي محاولة للوصول إلى الغائبين، سواء أكانوا أحياء على أطراف الدنيا أو أمواتاً خلف حدود
العالم. لهذا ارتبطت أغاني الحنين والفقد ارتباطاً وجوديّاً بقمم الجبال، حيث يُرجى أن تحمل الريح النداء، أو يتكفّل الصدى بإيصاله. الغناء عند الكرد هو فعل نجاة من الصمت
القاتل، ومحاولة لربط الإنسان بذاكرة ممتدّة في صلابة الجبال.
الصوت والمقام: “اللاووك والحيران”
في صميم الثقافة الكرديّة الشعبيّة، يرتبط الغناء بالتضاريس ارتباطاً روحيّاً عميقاً. بالرغم من انتشار مقامات “اللاووك” و”حيران” الموسيقي، إلا أنّ أداءها في سياق الطقس
الجبلي يضفي عليها بُعداً وجوديّاً خاصّاً، فالجرّ الطويل للحروف (السمة المميّزة للاووك) يُصبح محاكاة صوتيّة لجغرافيا المكان، كما لو أن الصوت يبحث عن صدرٍ آخر يلتقطه
قبل أن يتبدد. ومن أشهر الأمثلة على هذا الطابع الحزين والشجي، أغنية “آي دلبري” (Ay Dilbere) التي تُعدّ نموذجاً معاصراً لمقام “حيران”، وكذلك أغنية “جيبو زمان”
(Cîbo Zeman) التي تجسّد عمق الحزن والفقد في نمط “اللاووك”.
وكما يوثّق الشعر الفولكلوري الكردي القديم (في إشاراته للجبال كشاهد)، كيف ارتبطت المشاعر الجيّاشة بعادة “هاوار”، وهو نداء بدائي يطلقه الفاقدون في أعالي الجبال عند
موت شخص عزيز.
لم يجسّد “هاوار” حالة أنين؛ إنّما طقساً صوتيّاً له وظيفتان، هما: إفراغ داخلي (تفريغ الألم)، ووظيفة إعلانيّة قديمة، ففي القرى الجبليّة المعزولة، كان الصوت المرتفع للجبل
هو الوسيلة لإبلاغ القرى البعيدة بالفقد أو الخطر. وكثير من النساء الكرديّات لجأن إلى “هاوار” في لحظات الفقد، غير عابئات بقيود الأعراف أو الأديان على صوت المرأة،
ليصبح الجبل في تلك اللحظة مرآة للفقد ووسيطاً بين الروح والعالم الآخر.

من الحزن إلى التحدّي
يكشف هذا الطقس الصوتي حساسيّة عميقة تتلخص بأنّ الصوت لم يعدّ من أجل التواصل مع الأحياء فقط، إنما مع الذين رحلوا. لذلك يطلق الكرد أصواتهم للجبل، كأنما
يطلبون منه أن يحتفظ بالذاكرة، ويصير خزّاناً للألم والحنين. ولكن ليست كلّ النداءات حزناً، فالكثير من الأغاني الثوريّة الكرديّة انطلقت من القمم، إذ كان الصوت أداة مقاومة
بقدر ما هو وسيلة تعبير. فنرى الجبال وفّرت ملجأً للمقاتلين، وأصواتهم صارت أسلوباً لرفع الروح المعنويّة. وهنا، يتجاوز الغناء الصرخة الشخصيّة ليصبح خطاباً جماعيّاً، يلتفّ
حوله الناس، ويعيدون ترديده في حلقات الرقص الجماعي “الديلان”، ليتجاوز الصوت حدود الفرد، ويصير وسيلة للبقاء الجمعي.
الجبل شريك وجودي
إن بقاء هذا الطقس الصوتي في القرى النائية حتّى يومنا هذا، رغم ضغوط التمدّن، والتغيّرات الاجتماعيّة، ومحاولات الأنساق الرسميّة أو المؤسساتيّة لضبط هذه الأصوات
الفرديّة “غير المنضبطة”، هو دليل على قوته كآليّة بقاء ثقافي. إذ تذكّرنا هذه الممارسات بأنّ الصوت البشري، في لحظات الفقد، يعود إلى أصله الأوّل: صرخة عارية في
حضرة الطبيعة.
وعليه، نرى أن “الغناء للجبال” عند الكرد يخدم ثلاثة وظائف وجوديّة متكاملة: فهو طقس حزن يشرعن الانفجار العاطفي، وفعل مقاومة يرفض الصمت والانمحاء، والأهمّ، أنه
استراتيجيّة ذاكرة جماعيّة. أي، إعلان ضمني أنّ الصوت البشري قادر على تحويل الجغرافيا إلى أرشيف، فالجبال نفسها تصبح خازناً لأصوات الذين لم يجدوا مستمعاً.
حين نتأمّل هذه الظاهرة، ندرك أنّ الإنسان في حضرة الموت لا يجد سوى صوته ليقاوم العدم. وفي الحالة الكرديّة، هذا الصوت يجد صداه دائماً في حضن الجبل، الذي صار
شريكاً وجوديّاً وأصدق مستمع لتاريخ من الألم والغناء.

