السنباطي أوقع أم كلثوم في فخ أسمهان

اشتُهرت السيّدة أم كلثوم بأسلوبها الديكتاتوري الصارم طوال حياتها، لكن نفوذها في الدولة كان قد بدأ يتوسَّع بعد الثورة على النظام الملكي في مصر العام 1952 الذي كان يساوي الفنّان المصري بالفنّان العربي المقيم في مصر، ويعطيه ذات الحقوق ويلزمه بالواجبات، ثمّ بدأ عهد الرئيس جمال عبد الناصر وكانت أم كلثوم شديدة التملّق له، وخلال عهده وضع قوانين صارمة تضغط على الفنّانين العرب المقيمين في مصر، وتُبخس حقوقهم وكانوا يعاملون معاملة الأجانب.
تلك المرحلة بدأت فيها رحلة معاناة العبقري السوري فريد الأطرش، وغيره في مصر، ونستطيع الجزم أنّ كلّ ما لحق بفريد وأسمهان من ظلم وتهميش إعلامي وشتائم صحافيّة ومحاولات تشويه سمعة في مصر بدأت في تلك الحقبة.

وكانت أم كلثوم -كما أشرنا- معروفة بسطوتها على كلّ من تعاملت معهم في مسيرتها الفنّيّة، كما كان ظلمها للموسيقار العظيم “القصبجي” قضيّة تشغل الأوساط ليس المصري وحسب بل العربي أيضاً، فبعد أن كان القصبجي أوّل من تبنّى موهبة أم كلثوم، ورسم انطلاقتها الفنّيّة في أوّل أغنية خاصّة بها العام 1924، وهي «قال إيه حلف ما يكلمنيش»، ثمّ كان مفصليّاً في حياته الفنّيّة تعاونه مع أسمهان، الذي بدأ العام 1933، أي قبل زواجها من الأمير حسن الأطرش، وإقامتها في سوريا ستّة سنوات لتعود بعدها وتتجاوز بأعمالها مع القصبجي حدود الإبهار والخلود الفنّي.
لكن بعد وفاة أسمهان كان التقاعد الفنّي مصير ذلك الموسيقار، الذي أطلق شعلة أم كلثوم الفنّيّة العام 1924، واكتشف المقدرة الأوبراليّة الإعجازيّة في حنجرة أسمهان في العام 1937، ومنذ أوائل الخمسينيات من القرن الفائت جعلته أم كلثوم مجرّد عازف في فرقتها حتّى وفاته العام 1966، عقاباً له على أعماله الخالدة التي قدّمها لأسمهان!
السنباطي أوقع أم كلثوم في فخ أسمهان

كما تخللت علاقة أم كلثوم بالموسيقار السنباطي أكثر من قطيعة كان أوّلها في العام 1940، بسبب أسمهان أيضاً، فبحسب كتاب (أم كلثوم وحكّام مصر) للكاتب الصحفي (سعيد الشحات) أتى رياض السنباطي في يومٍ إلى أم كلثوم عرض عليها قصيدة (حديث عينين) للشاعر أحمد فتحي، لكن أم كلثوم رفضتها لأسلوبها المعاصر، وما لم يذكره الأستاذ “شحات” أنّ أم كلثوم اشترطت إجراء بعض التعديلات على الأغنية كي تغنيها، والسنباطي رفض تعديلها، وكان قد أسمعها لصديقه الموسيقار “القصبجي” فأحبّها جدّاً، ونصحه بإعطائها لأسمهان المعروفة بالنمط التجديدي، وكانت أسمهان قد عادت من جبل العرب العام 1939، للاستقرار في مصر، والتركيز مجدداً في أعمالها الفنّيّة، فغنّت أسمهان القصيدة في العام 1940، تمّ بثّها عبر أثير إذاعة “BBC” البريطانيّة وكان هذا اللحن أوّل ما غنته أسمهان للأستاذ السنباطي، مما سبب غضب أم كلثوم من السنباطي، وقطيعة لم تطل حتّى عاد السنباطي بالتودد إليها، ومحاولة استرضائها فعرض عليها أعماله مجدداً.

لكن ما الذي تجهله أم كلثوم عن لحن أغنيتها المعروفة (نهج البردة) التي غنتها في العام 1946 من ألحان السنباطي؟
في مقابلة للتلفزيون الكويتي سُئل الموسيقار رياض السنباطي عن أسرع لحن قام بإنجازه فقال: هناك أغنية لم تستغرق مني سوى ثلاث ساعات وهي أغنية (نهج البردة) لدرجة أن أم كلثوم لم تصدّق أنني نجحت في ذلك، فلمّا أسمعتها مطلع الأغنية بكت بقوّة، ولمّا سألتها عن سرّ هذا البكاء الشديد قالت: “إنّ الأغنية هزّتني من أعماقي”، فردّ السنباطى عليها قائلاً: “وأنا أعترف لك بأنني لا أعرف كيف لحنت ” نهج البردة ” وإنما والله على ما أقول شهيد كنت أستمع إلى صوت شجي في داخلي وأنا أردد وراءه، وتلك حقيقة فأنا لم ألحنها، وإنما أنا رددتها وراء صوت سماوي في داخلي!”.
السنباطي أوقع أم كلثوم في فخ أسمهان

عزيزي القارئ إنّ الصوت السماوي الذي يقصده السنباطي هو صوت أسمهان، لأنّ ذلك اللحن نفسه كان قد وضعه السنباطي في العام 1940 على قصيدة (قرطبة الغراء) للشاعر ابن زيدون التي غنتها أسمهان في إذاعة الشرق الأدنى BBC البريطانية، ثمّ فُقدت الأغنية بعدما انتقل مقر إذاعة الشرق الأدنى من القدس إلى قبرص في العام 1947، وانتقل أرشيفها إلى لندن، وأحيل معظمه للاستيداع، وصارت تُذاع من لندن على الموجة القصيرة، ليعاد بثّها من قبرص على الموجة المتوسطة، كما ركّزت الإذاعة حينها على نشرات الأخبار، فانصرف عنها السمّيعة لعدم ثبات الصوت في الموسيقى والأغاني، وتلك القصيدة لم تسجلها أسمهان على اسطوانات فكانت حكراً للإذاعة، لذلك لم تلقَ انتشاراً حينها، والمؤكّد أنّ أم كلثوم لم تسمعها، ثمّ أن ذات القصيدة سجلها أيضاً في ذات المحطّة الفنّان الكبير (صالح عبد الحي) بمقدّمة طويلة عزفها على عوده، وهي موجودة الآن، نتمنّى أن تظهر كلّ الكنوز المفقودة بصوت أسمهان لأنّها ستكشف الكثير من الحقائق بالإضافة لأهمّيّتها العلميّة والفنّيّة والتاريخيّة.
بقلم يوسف يوسف
جدل نيوز