ليو تولستوي الروائي المتمرّد
في مثل هذا اليوم، وُلد “ليو تولستوي” (1828-1910)، نبيل الأدب لا الروسي وحسب بل نبيل كلّ مكانٍ وزمان.
تروي سيرته مواقف عديدة في الإصلاح الاجتماعي والدعوة إلى السلم والتعايش والمحافظة على القيم
الأخلاقيّة، كيف لا وهو ابن القرن التاسع عشر، قرن فوضى الحروب، والفقر ومخاض النضال الذي
اكتسب قيمه الحقيقيّة من أجل ولادة إنسان عصري مثقّف وواعٍ، ابن الحياة البشريّة في عهدها الجديد.
ذلك الكاتب الذي لم يكتفِ بكتابة بعض أعظم الروايات في التاريخ، بل تجاوز حدود الأدب ليطرح أسئلة عن الحريّة والقدر والأخلاق.
السرّ العاطفي
“ليو تولوستوي” بن الأميرة “ماريا فولكونسكي”، التي رحلت عن عالم ابنها وهو في عمر العامين،
لكن والده لم يقضي الوقت الطويل معه، وكذلك القدر رحل هو الآخر بعد تسعة أعوام من ولادة الابن،
وتوالت مربيات “تولستوي” في رعايته وتعليمه الواحدة تلو الأخرى، ولربّما يكمن السرّ هنا في
العاطفيّة الدقيقة التي تمتاز بها روح الروايات التي أنتجها هذا الكاتب الفريد من نوعه، فبين روايتي
(الحرب والسلام) و(آنا كارنينا)، لم يكن “تولستوي” مجرّد راوٍ للحكايات، بل ناقداً شرساً للإنسان ولذاته أيضاً.
من الدفاتر
لدى العودة إلى مذكرات كاتبنا الجميل “ليو تولستوي”، سنجد الكثير من التقلّبات المثيرة في حياته،
وانغماسه في العلاقات الاجتماعيّة ومحبّة الناس، وقد يكون الزمن الذي ولد فيه “تولستوي” هو السبب في كلّ ذلك.

اجتذابات …
حاول “تولستوي” أن ينجز في التحصيل العلمي فدرس في جامعة قازان اللغات الشرقيّة العربيّة
والتركيّة ولم يكملها، ودرس القانون في نفس الجامعة لاحقاً ولم يكمل دراسته فيها، حيث كانت الحياة
تجتذبه لمكان مختلف حيث انضم لجبهة الجيش الروسي في القوقاز ليكون جنديّاً وضع انطباعاته
ككاتب في ثلاثة كتب عبر رحلة وتجربة غريبة جدّاً على شخص نبيل لديه ممتلكاته واستقراره المادّي
الذي لا يدعوه للمشقّات وحياة التقهقر.
شهرة غريبة!
من الغريب أن نجد شهرة “تولستوي” بأوربا قد انتشرت في كونه مربياً لديه نظرياته المستقلة في
التربيّة والتعليم وضرورة تعلّم الفلاحين والمزارعين وتثقيفهم.
الرواية كمعمل للوجود
لم يكن تولستوي معنياً بسرد الأحداث وحدها، بل بتحويل الرواية إلى مختبر فلسفي.
في (الحرب والسلام)، لا نقرأ مجرّد ملحمة عن غزو القائد العسكري نابليون لروسيا، بل نواجه
سؤالاً أبديّاً: هل نحن نصنع التاريخ أم تصنعه الظروف؟ هنا تتحرك شخصيّاته بين شهوة السلطة
وقدريّة المصير، في توازنٍ يجعل القارئ يتأمّل نفسه بقدر ما يتأمّل أبطال الرواية ومشاهدهم المؤثّرة.

التراجيديا الأخلاقيّة لآنا كارنينا
أمّا آنا كارنينا فهي أكثر من قصّة حبّ مأساويّة، إنّها تفكيك صارم للتوتّر بين العاطفة والأخلاق.
وهل يمكن للحبّ أن يبرر الخيانة؟ وهل السعادة الفرديّة تُغني عن ثمن انهيار النظام الاجتماعي؟
المدهش أنّ تولستوي كتب وكأنّه يحاكم بطلته، لكنّه في النهاية لم يستطع أن يدينها إدانةً كاملة
النصاب، تاركاً القارئ في منطقة رماديّة بين التعاطف والرفض.
ألف ليلة وليلة وتولستوي
لا بدّ من الاعتراف بأن قائمة الكتب التي تركها لنا “ليو” من أهمّ وأثرى الكتب على مستوى القيمة
والهدف والمنهج والتوجهات، لكن المفاجئة أنه وباعترافٍ منه يذكر بأنه تأثّر بالثقافة العربية ولا سيّما
كتاب التراث العربي ألف ليلة وليلة الكتاب المليء بأسرار الخيال وقصص السحر والمغامرات الغريبة،
حيث اطلع على جزء من قصص هذا الكتاب وهو بعمر الرابعة عشرة لكنه بقي يذكر عن هذه القصص
لوقتٍ طويل ويستشهد بمدى قوّة وتأثير ألف ليلة وليلة على خيال القارئ.
الكاتب ضدّ الكتابة
المفارقة الكبرى أنّ تولستوي، بعد أن قدّم أعظم الروايات في تاريخ الأدب، انقلب على الأدب نفسه.
أعلن نفوره من الفنّ الذي لا يحمل رسالة أخلاقيّة، وتحوّل إلى واعظٍ ومُصلح اجتماعي.
لقد أنكر على الكتابة قدرتها في إنقاذ الروح، وهو في الوقت نفسه هو من جعل الرواية مِنصّة كبرى للأسئلة الأخلاقيّة والوجوديّة.

لماذا يظلُّ تولستوي حاضراً اليوم؟
في زمن السرعة والسطحيّة، تذكّرنا تجربة تولستوي أنّ الأدب ليس مجرّد حكاية، بل أُفق للتفكير في معنى الحريّة، الحبّ، والمسؤوليّة.
إن قراءة تولستوي اليوم ليست عودة إلى الماضي، بل مواجهة لأسئلتنا الأخلاقيّة الكبرى التي لم تفقد راهنيّتها.

